فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والخير كلمة عامة تشمل كل أوامر التكليف، لَكِن جاءت مع الصلاة على سبيل الإجمال، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالخير- إذن- كلمة جامعة لكل ما تؤديه وظائف المناهج من خير المجتمع؛ لأن المنهج ما جاء إلا لينظم حركة الحياة تنظيمًا يتعاون ويتساند لا يتعاند، فإنْ جاء الأمر على هذه الصورة سَعِد المجتمع بأَسْره.
ولا تنْسَ أن المنهج حين يُضيِّق عليك ويُقيِّد حركتك يفعل ذلك لصالحك أنت، وأنت المستفيد من تقييد الحركة؛ لأن ربك قيّد حركتك وضيَّق عليك حتى تُلحِق الشر بالآخرين، وفي الوقت نفسه ضيّق على الآخرين جميعًا أن يتحركوا بالشر ناحيتك، وأنت واحد وهم كثير، فمن أجل تقييد حركتك قيّد لك حركة الناس جميعًا، فمَنِ الكاسب في هذه المسألة.
الشرع قال لك: لا تسرق وأنت واحد وقال للناس جميعًا: لا تسرقوا منه، وقال لك: غُضّ بصرك عن محارم الغير وأنت واحد. وقال لكل غير: غُضُّوا أبصاركم عن محارم فلان، فكل تكليف من الله للخَلْق يعود عليك.
فالمعنى: {وافعلوا الخير} [الحج: 77] أي: الذي لا يأتي منه فساد أبدًا، وما دامت الحركات صادرة عن مراد لهوى واحد فإنها تتساند وتتعاون، فإنْ كان لك هوى ولغيرك هوى تصادمتْ الأهواء وتعاندت، والخير: كل ما تأمر به التكاليف المنهجية الشرعية من الحق تبارك وتعالى.
ثم يقول سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] لَكِن، أين سيكون هذا الفَلاَح: في الدنيا أم في الآخرة؟
الفلاَح يكون في الدنيا لمن قام بشرع الله والتزم منهجه وفعل الخير، فالفَلاح ثمرة طبيعية لمنهج الله في أيِّ مجتمع يتحرك أفرادُه في اتجاه الخير لهم وللغير، مجتمع يعمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وعندها لن ترى في المجتمع تزاحمًا ولا تنافرًا ولا ظلمًا ولا رشوة.. إلخ. هذا الفلاح في الدنيا، ثم يأتي زيادة على فلاح الدنيا فلاح الآخرة.
إذن: لا تظنوا التكاليف الشرعية عِبْئًا عليكم؛ لأنها في صالحكم في الدنيا، وبها فلاح دنياكم، ثم يكون ثوابها في الآخرة مَحْض الفضل من الله.
وقد نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه المسألة فقال: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أنْ يتغمّدني الله برحمته» ذلك لأن الإنسان يفعل الخير في الدنيا لصالحه وصالح دنياه التي يعيشها، ثم ينال الثواب عليها في الآخرة من فضل الله كما قال تعالى: {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } [النساء: 173].
وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] نعرف أن لعل أداة للترجي، وهو درجات بعضها أرْجى من بعض، فمثلًا حين تقول: لعل فلانًا يعطيك، فأنت ترجو غيرك ولا تضمن عطاءه، فإنْ قلت: لعلِّي أعطيك. فالرجاء- إذن- في يدك، فهذه أرجى من سابقتها، لَكِن ما زلنا أنا وأنت متساويين، وربما أعطيك أولًا، إنما حين تقول: لعل الله يعطيك فقد رجوْتَ الله، فهذه أرجى من سابقتها، فإذا قال الله تعالى بذاته: لعلي أعطيك فهذا أقوى درجات الرجاء وآكدها؛ لأن الوعد من الله والرجاء فيه سبحانه لا يخيب.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ }.
معنى {حَقَّ جِهَادِهِ } [الحج: 78] كالذي قلناه في {مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج: 74] لأن الجهاد أيضًا يحتاج إلى إخلاص، وأنْ تجعل الله في بالك، فربما خرجتَ لمجرد أن تدفع اللوم عن نفسك وحملتَ السلاح فعلًا ودخلت المعركة، لَكِن ما في بالك أنها لله وما في بالك إعلاء كلمة الله، كالذي يقاتل للشهرة وليرى الناس مكانته، أو يقاتل طمعًا في الغنائم، أو لأنه مغتاظ من العدو وبينه وبينه ثأر، ويريد أن ينتقم منه، هذه وغيرها أمور تُخرِج القتال عن هدفه وتُفرغه من محتواه.
لذلك لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمَنْ في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وهذا هو حق الجهاد، وأنت فيه حكَم على نفسك، لأن ميزان ذلك في يدك.
وقد تسأل: ولماذا الجهاد؟ قالوا: لأنك إذا انتفعتَ بالمنهج تطبيقًا له بعد التحقيق الذي أتى به الرسل تنفع نفسك، لَكِن ربك-عز وجل- يريد أنْ يُشيع النفع لمن معك أيضًا، وهذا لا يتأتّى إلا بالجهاد بالنفس أو المال أو أي شيء محبوب، وإلا فكيف ستربح الصفقة التي قال الله تعالى عنها: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } [التوبة: 111].
وكما أن للجنود في ساحة القتال مهمة، كذلك لمن قعد ولم يخرج مهمة: الجندي حين يقتحم الأهوال والمخاطر ويُعرِّض نفسه للموت، فهذا يعني أنه دخل المعركة وما عرَّض نفسه للموت، فهذا يعني أنه ما دخل المعركة وما عرَّض نفسه للقتل إلا وهو واثق تمام الثقة، أن ما يذهب إليه بالقتل خير مما يناله بالجُبْن، وهذا يشجع الآخرين ويحثّهم على القتال.
لذلك، في غزوة بدر لما سمع الصحابي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهيد وكان في فمه تمرة يمصُّها، فقال: يا رسول الله، أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أُقتل في سبيل الله؟ قال: «نعم» فألقى التمرة من فيه وخرج لتوِّه إلى الجهاد لأنه واثق تمام الثقة أن ما سيذهب إليه بالشهادة خير مما ترك.
أما الذين بَقَوْا ولم يخرجوا، فمهمتهم أن يحملوا المنهج، وأنْ يحققوه، وإلا لو خرج الجميع إلى القتال واستشهدوا جميعًا، فمَنْ يحمل منهج الله وينشره؟
وجاءءت كلمة الجهاد عامة لتشمل كل أنواع الجهاد، فإذا ما أثمر الجهاد ثمرته وتعلبنا على الكفر فلم يَعُدْ هناك كفار، أو خَلَّوْا طريق دعوتنا وتركونا، وأحبوا أنْ يعيشوا في بلادنا أهل ذمة، فلا داعي- إذن- للقتال، ويتحول الجهاد إلى ميدان آخر هو جهاد النفس.
لذلك قال تعالى بعدها: {هُوَ اجتباكم } [الحج: 78] يعني: اختاركم واصطفاكم لتكونوا خير أمة أُخرجت للناس، وثمن هذا الاجتباء أن نكون أهلًا له، وعلى مستوى مسئوليته، وأنْ نحقق ما أراده الله منّا.
كما ننصح جماعة من أهل الدعوة الذين حملوا رايتها، نقول لهم: لقد اختاركم الله، فكونوا أَهْلًا لهذا الاختيار، واجعلوا كلامه تعالى في محلّه.
ثم يقول سبحانه: {وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78] يعني: ما اجتباكم ليُعنتكم، أو ليُضيِّق عليكم، أو ليُعسِّر عليكم الأمور، إنما جعَل الأمر كله يُسْر، وشرعه على قَدْر الاستطاعة، ورخَّص لكم ما يُخفِّف عنكم، ويُذهِب عنكم الحرج والضيق، فمَنْ لم يستطع القيام صلى قاعدًا، ومَنْ كان مريضًا أفطر، والفقير لا زكاة عليه ولا حج.. إلخ.
كما قال سبحانه في موضع آخر: {وَلَوْ شَاءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } [البقرة: 220] لَكِنه سبحانه ما أعنتكم ولا ضَيَّق عليكم، وما كلَّفكم إلا ما تستطيعون القيام به.
وقوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} [الحج: 78] كلمة ملة جاءت هكذا بالنصب، لأنها مفعول به لفعل تقديره: الزموا مِلة أبيكم إبراهيم؛ لأنكم دعوته حين قال: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا } [البقرة: 128]
ومن دعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ } [البقرة: 129] لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرى عيسى».
يعني: من ذريته وذرية ولده إسماعيل {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } [البقرة: 128] أعطنا التكاليف، وكأنه مُتشوِّق إلى تكاليف الله، وهل يشتاق الإنسان للتكليف إنْ كان فيه ضيق أو مشقة؟
وكذلك كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يعشقون تكاليف الإسلام، ويسألون عنها رسول الله رغم قوله لهم: «ذروني ما تركتكم» إلا أنهم كانوا يسألون عن أمور الدين ليبنوا حياتهم الجديدة، لا على ما كانت الجاهلية تفعله، بل على ما أمر به الإسلام.
ولنا مَلْحظ في قوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم } [الحج: 78].
نقول: الإسلام انقياد عَقَديٌّ للجميع، وفي أمة الإسلام مَنْ ليس من ذرية إبراهيم، لَكِن إبراهيم عليه السلام أبٌ لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والرسول أب لكل مَنْ آمن به؛ لأن أبوة الرسول أبوة عمل واتباع، كما جاء في قول الله تعالى في قصة نوح عن ابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [هود: 46].
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أبًا لكل مَنْ آمن به سَمَّى الله زوجاته أمهات للمؤمنين، فقال سبحانه: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6].
وما دامت الأزواج أمهات، فالزوج أب، وبناءً على هذه الصلة يكون إبراهيم عليه السلام أبًا لأمة الإسلام، وإنْ كان فيهم مَنْ ليس من سلالته.
ونجد البعض ممَّنْ يحبون الاعتراض على كلام الله يقولون في مسألة أبوة الرسول لأمته: لَكِن القران قال غير ذلك، قال في قصة زيد بن حارثة:
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } [الأحزاب: 40] فنفى أن يكون محمد أبًا لأحد، وفي هذا ما يناقض كلامكم.
نقول: لو فهمتم عن الله ما اعترضتُم على كلامه، فالله يقول: ما كان محمد أبًا لأحدكم، بل هو أب للجميع، فالمنفيّ أن يكون رسول الله أبًا لواحد، لا أن يكون أبًا لجميع أمته. وقال بعدها: {ولَكِن رَّسُولَ الله } [الأحزاب: 40] وما دام رسول الله، فهو أب للكل.
ثم يقول تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {هُوَ سَمَاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ } [الحج: 78] يعني: إبراهيم عليه السلام سماكم المسلمين، فكأن هذه مسألة واضحة وأمْر معروف أنكم مسلمون منذ إبراهيم عليه السلام: {وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شهداء عَلَى الناس } [الحج: 78].
وفي موضع آخر يحدث تقديم وتأخير، فيقول سبحانه: {لِّتَكُونُواْ شهداء عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
لماذا؟ قالوا: لأن رسول الله بلَّغ رسالة الله، وأشهد الله على ذلك حين قال: «اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد» أشهد أنِّي بلغتُ، وهو صلى الله عليه وسلم يريد من أمته أن يكون كل شخص فيها حاملًا لهذه الرسالة، مُبلِّغًا لها حتى يسمع كلام الرسول مَنْ لم يحضره ولم يَرَهُ، وهكذا يكون الرسول شهيدًا على مَنْ آمن به، ومَنْ آمن شهيدًا على مَنْْ بلّغه.
لذلك من شرف أمة محمد أولًا أنه لا يأتي بعده رسول؛ لأنهم مأمونون على منهج الله، وكأن الخير لا ينطفيء فيهم أبدًا. وقلنا: إن الرسل لا يأتون إلا بعد أنْ يعُمَّ الفساد، ويفقد الناس المناعة الطبيعية التي تحجزهم عن الشر، وكذلك يفقدها المجتمع كله فلا ينهى أحد أحدًا عن شر؛ عندها يتدخل الحق سبحانه برسول ومعجزة جديدة ليُصلح ما فسد.
فختام الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم شهادة أن الخير لا ينقطع من أمته أبدًا، ومهما انحرف الناس سيبقى جماعة على الجادة يحملون المنهج ويتمسكون به ويكونون قدوة لغيرهم. لذلك حدَّد رسول الله هذه المسألة فقال: «الخير فيَّ حصرًا، وفي أمتي نثرًا» فالخير كله والكمال كله في شخص رسول الله، ومنثور في أمته.
ثم يعود السياق إلى الأمر بالصلاة: {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } [الحج: 78] لأنها الفريضة الملازمة للمؤمن، وفيها إعلاء الولاء المكرر في اليوم خمس مرات، وبها يستمر ذِكْر الله على مدى الزمن كله لا ينقطع أبدًا في لحظة من لحظات الزمن حين تنظر إلى العالم كله، وتضم بعضه إلى بعض.
والمتأمل في الزمن بالنسبة للحق- تبارك وتعالى- يجده دائمًا لا ينقطع، فاليوم مثلًا عندنا أربع وعشرون ساعة، واليوم عند الله ألف سنة مما تعدُّون، واليوم في القيامة خمسون ألف سنة، وهناك يوم اسمه يوم الآن أي: اللحظة التي نحن فيها، وهو يوم الله الذي قال عنه:
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] لذلك يقول: ما شغل ربك الآن وقد صَحَّ أن القلم قد جَفَّ؟ قال: أمور يبديها ولا يبتديها، يرفع أقوامًا، ويضع آخرين.
فيوم الآن يوم عام، لا هو يوم مصر، ولا يوم سوريا، ولا يوم اليابان إذن: في كل لحظة يبدأ لله يوم ينتهي يوم، فيومه تعالى مستمر لا ينقطع.
ونقرأ في الحديث النبوي الشريف: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسِيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل».
نهار مَنْ؟ وليل مَنْ؟ فالنهار والليل في الزمن دائم لا ينقطع، وفي كل لحظة من لحظات الزمن ينتهي يوم ويبدأ يوم، وينتهي ليل ويبدأ ليل. إذن: فالله تعالى يده مبسوطة دائمًا لا يقبضها أبدًا، كما قال سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [المائدة: 64]
ثم يقول سبحانه: {واعتصموا بالله} [الحج: 78] الجئوا إليه في الشدائد، وهذا يعني أنكم ستُواجهون وتُضطهدون، فما من حامل منهج لله إلا اضُطهد، فلا يؤثر فيكم هذا ولا يفُتُّ في عَضُدكم، واجعلوا الله ملجأكم ومعتصمكم في كل شدة تداهمكم، كما قال سبحانه: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ} [هود: 43].
واعتصامكم بالله أمر لا تأتون إليه بأنفسكم إنما {هُوَ مَوْلاَكُمْ} [الحج: 78] يعني: المتولّي لشأنكم، وما دام هو سبحانه مولاكم {فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله عز وجل: {ذلك وَمَنْ عَاقَبَ}.
قال مقاتل: وذلك أن مشركي العرب لقوا المسلمين في الشهر الحرام، فكره المسلمون القتال، فقاتلهم المشركون فبغوا عليهم، فنصر الله المسلمين عليهم.
فوقع في أنفس المؤمنين من القتال في الشهر الحرام، فنزل: {ذلك وَمَنْ عَاقَبَ}؛ يقول: هذا جزاء من عاقب {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ}؛ وقال بعضهم: ذلك يعني: ما وصفنا من صفة أهل الجنة وأهل النار، فهو كذلك.
فقد تم الكلام {وَمَنْ عَاقَبَ} ابتداء الكلام بمثل ما عوقب به في الدنيا؛ وقال الكلبي: الرجل يقتل وله الحميم، فله أن يقتل به قاتله.
{ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله} على من بغى عليه؛ ويقال: إذا زاد على القتل لينصرنه الله؛ ويقال: إن الرجل إذا وجب له القصاص، فله أن يقتل أو يأخذ الدية.
فإن أخذ أكثر من حقه بالقتل وأخذ الدية {ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ}، أي ظلم عليه، يعني: غضب عليه أولياء المقتول باستيفاء حقه، فجنوا عليه؛ لينصرنه الله، أي له أن يطلب بجنايته؛ ويقال له: إذا ظلم على ولي المقتول بالاستطالة بالقتل، أو بأخذ الدية لينصرنه الله بأخذ حقه.
{إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} بقتالهم.
ثم قال عز وجل: {ذلك}، يعني: ذلك القدرة {ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل في النهار وَيُولِجُ النهار في الليل وَأَنَّ الله سَمِيعٌ}.
ثم قال: {ذلك}، يعني: هذا الذي ذكر من صفته وقدرته، {بِأَنَّ الله}؛ يعني: لعلموا أن الله {هُوَ الحق}، وأن عبادته الحق، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل}؛ ولا يقدرون على شيء.